فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (285):

{آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}.
التفسير:
يخبر اللّه سبحانه وتعالى بإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه، أي بالقرآن الذي أنزل عليه، وبما حمل هذا القرآن من أحكام وآداب، كما يخبر سبحانه بإيمان المؤمنين الذي اتبعوا النبي، على نحو الإيمان الذي آمن به النبيّ.
وليس الإخبار بإيمان النبيّ والمؤمنين لمجرد الإعلام بمضمون هذا الخبر، وإنما لما ينكشف وراء هذا الخبر من الصورة التي كان عليها إيمانهم، فهذا الإيمان قائم على دعائم، هى: الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، دون تفرقة بين أحد من رسله، فهم جميعا حملة رسالة اللّه إلى عباده، يعملون لغاية واحدة، هي هداية الناس إلى اللّه، وإقامتهم على صراط اللّه، ودين اللّه.. والتفرقة بينهم تفرقة للحق الذي جاءوا به، والحق وجه واحد، وطريق واحد، لا تختلف مناهجه، ولا تتفرق سبله.
ومن تمام هذا الإيمان أيضا، السمع والطاعة للّه ولرسوله، والإنابة إلى اللّه في العثرات والزلات.
وقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} هو مقول لقول محذوف يدل عليه القول في قوله تعالى: {وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا} أي قائلين لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا.
وفى هذا كله تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين فرّقوا دين اللّه، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، وعزلوا رسل اللّه بعضهم عن بعض كما عزلوا هم أنفسهم عن المجتمع الإنسانى كله.

.تفسير الآية رقم (286):

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)}.
التفسير:
التكاليف التي حملها رسل اللّه إلى الناس، إنما هي لإصلاح معاشهم ومعادهم، وإقامتهم على طريق مستقيم، تطيب لهم فيه الحياة، حيث تجمعهم الأخوة والمودة، ويؤلف بينهم العدل والإحسان.
وهذه التكاليف ليس فيها إعنات ولا تحدّ لقدرة الإنسان وقوة احتماله، وإلا كانت ضربا من النكال، ولونا من العقاب، الأمر الذي جاءت رسالات السماء على خلافه.. فما هي إلا رحمة من رحمات اللّه، وفضل من أفضاله على عباده، تفتح لهم مغالق الخير، والحق، والهدى.
وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} هو البيان المبين لحقيقة الشرائع السماوية، وأنها المنهج التربوى السليم، لإصلاح أمر الفرد والمجتمع، وهى الغذاء الروحي والنفسي والعقلي للإنسان.. وإذ كان هذا شأنها فإنها لم تجئ إلا بما تتقبله النفوس السليمة، وتستجيب له، وتتفاعل معه، وتسعد به.
وإذ كانت أحكام الشريعة عامة للناس كلهم، عامتهم وخاصتهم على السواء، وإذ كان الناس على درجات متفاوتة، في القوة والضعف، وفى الصحة والمرض- فإن مما قضت به الحكمة في ذلك أن جاءت الشرائع السماوية- وخاصة شريعة الإسلام- على مستوى الوسط للقدرة الإنسانية، بمعنى أن من فوق هذا المستوي تتسع قدراتهم لأكثر من تكاليف الشريعة، على حين أن من دون هذا المستوي لا تضيق نفوسهم به، وإن وجدوا فيه شيئا من العناء والجهد.
هذا في مجال الإنسانية كلها.. أما في خاصة حياة الفرد من الناس، فإن الشريعة قد راعت الظروف الخاصة التي تعرض للإنسان، والضرورات التي تتحدّى قدرته، فوضعت لتلك الظروف وهذه الضرورات أحكاما خاصة، موقوتة بوقتها، ومقدورة بقدرها، فأباحت المحظورات عند الضرورات، ودفعت الحرج عن الضعفاء، والمرضى، والمسافرين، فرفعت عنهم بعض الأحكام، رفعا جزئيا أو كليا، بصفة مؤقته أو دائمة، وبهذه الأحكام الاستثنائية الواردة على الأحكام العامة، يرفع الحرج عن المؤمنين باللّه، الحريصين على الوفاء بأحكام شريعته.. وهذا من رحمة اللّه بالناس، ولطفه بعباده: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [220: البقرة].
ثم إن في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها}.
ما يجعل إلى الإنسان نفسه عند التطبيق العملىّ لأحكام الشريعة، أن يردّها إلى قدرته واحتماله، فما خرج منها عن قدرته، وجاوز احتماله، فقد تجاوز اللّه عنه، ورفع عنه الحرج فيه، شريطة أن يكون ذلك عن نية صادقة في الامتثال لأمر اللّه، ورغبة خالصة في مرضاته، بمعنى أن يحاول الإنسان أداء المطلوب صادقا مخلصا، فإن عجز أو قصّر فرحمة اللّه لن تضيق به، ولن تقيمه على الضر والأذى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} وقوله تعالى: {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} الكسب هنا غير الاكتساب.. فالكسب للحسنات والأعمال الصّالحة، والاكتساب للسيئات والأعمال السيئة.. وفى لفظ الكسب خفة، ولطف، واستقامة على اللسان، على خلاف لفظ الاكتساب وما فيه من ثقل، وقلق واضطراب.
{كسبت} و{اكتسبت}:
ولفظ {لها ما كسبت} يفيد الملكية، التي تقضى للمالك بالانتفاع بما ملك، والتصرف فيه بما ينفعه، وذلك واقع فيما يكسبه الإنسان من حسنات، وما يعمله من صالحات.. إنها له، وملك يمينه، أما لفظ {عليها ما اكتسبت} فهو يدل على إلقاء أعمال وأعباء على كاهل المكتسب، تنقض ظهره، وتقيد خطوه، فلا يبلغ غاية، ولا يحقق أملا.
قوله تعالى: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}.
من رحمة اللّه بنا وألطافه علينا- أتباع هذه الملة السمحاء- أن دعانا إلى أن ندعوه بهذا الدعاء، الذي صاغه سبحانه من كلماته، وجعله سبحا لملائكته ولعباده الصالحين، يسبّحون له، ويدعون لنا به.. بل إنه سبحانه وتعالى يأتمّنا بهذا الدّعاء، ويصلى علينا به، ونحن نقول بما يقول، ونصلّى بما يصلّى.. فما أكثر رحمة اللّه بنا، وما أوسع فضله علينا.. إذ تقبّل دعاءنا قبل أن ندعو، واستجاب لنا قبل أن نكون! فقد رفع اللّه عنا الخطأ والنسيان، كما أخبر الرسول الكريم في قوله: «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» كذلك عافانا مما ابتلى به أمما قبلنا.. كأمة اليهود، الذين ابتلاهم اللّه بضروب شتى من البلوى، وحمّلهم من التكاليف ما أعنتهم وأرهقهم، عقابا لهم، ونكالا، جزاء كفرهم بآيات اللّه، ومكرهم بنعمه، وفى هذا يقول سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [160: النساء] ويقول سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} [146: الأنعام].. لقد عافانا اللّه من هذا الامتحان القاسي، فلم يأخذنا بذنوبنا، ولم يحملنا من التكاليف ما لا نطيق، وجعل لنا باب التوبة مدخلا نثوب به إليه، ونقترب منه، بعد أن بعدنا بذنوبنا عنه، إذ نضرع إليه قائلين: {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}.
وإنى لأحبّ أن أفهم قوله تعالى: {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}.
على أنه- مع كونه دعاء مطلقا يدعو به المسلم في كل وقت- هو تعويذة يلوذ بها المذنبون الذي تغلبهم أنفسهم، وتقهرهم أهواؤهم فيقترفون ما اقترفوا وهم في هذا الضعف النفسي المستولى عليهم، فهم- والحال كذلك- قد وجدوا أمام أمر لا طاقة لهم به، وهم لذلك في استخزاء، وفى حسرة وندم، لا يجدون إلا وجه اللّه يبسطون أيديهم إليه أن يعينهم على أنفسهم، فيقوّى من إيمانهم، ويشد من عزائمهم، في هذا الصراع الدائر في كيانهم، بين الإقدام على المعصية والإحجام عن مواقعتها، حتى ينتصروا على أنفسهم وينتهوا عمّا نهوا عنه.
وفى ختم هذا الدعاء العظيم الشامل بقوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} إلفات للمسلمين بأن غايتهم من هذا التضرع إلى اللّه، بإصلاح أمرهم واستقامة طريقهم- هو أن يكونوا آخر الأمر أهلا لهداية الناس إلى اللّه، وأن يصبحوا جبهة عاملة لنصرة الحق، وجندا مقاتلا في سبيل اللّه، وبهذا تقوى جبهة الإيمان، وتضمر أو تزول دولة الكفر.. وإذ كان المؤمنون أولياء اللّه، ونصراء كلمته، فإن اللّه وليهم وناصرهم على عدوهم.
{أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}.

.سورة آل عمران:

اسمها: سورة آل عمران، ومن أسمائها: الزهراء.
وتسمى هي والبقرة: الزهراوين.
نزولها: نزلت بالمدينة.. بعد البقرة، والأنفال.
عدد آياتها: مائتا آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة.
عدد حروفها: أربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآية رقم (1):

{الم (1)}.
التفسير:
ذكرنا في أول سورة البقرة ما يقال عن المراد من الحروف التي بدئت بها بعض السور في القرآن الكريم.

.تفسير الآيات (2- 4):

{اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)}.
التفسير:
جملة {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} صفة للّه، و{الْحَيُّ} صفة ثانية، و{الْقَيُّومُ} صفة ثالثة.
فاللّه سبحانه وتعالى الموصوف بالتفرّد بالألوهية، السرمدية الأبدية، التي لم يسبقها ولا يلحقها عدم، وبالقيومية المبسوط سلطانها على كل شيء، القائم أمرها على كل شيء- هذا الإله هو الذي نزل الكتاب على محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- فمن هذا المقام الكريم الذي لا يطاول ولا يسامى كان متزّل هذا الكتاب الكريم، الذي يقول فيه المشركون والمنافقون- زورا وبهتانا- إنه من معطيات محمد، تلقاه من أصحاب العلم من أهل الكتاب، ولقنه من مدارسة الدارسين.. كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم في قوله تعالى: {إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [103: النحل] وقوله سبحانه: {وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [5: الفرقان] وقد جاء هذا القرآن بالحقّ الذي لا مرية فيه، لأنه من ربّ العالمين، جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، لأنها جميعها من مصدر واحد، جاءت من الحق بالحق كما يقول سبحانه: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [105: الإسراء] واللّه سبحانه الذي أنزل القرآن بالحق، هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدّى للناس، وأنزل الفرقان أي القرآن كذلك هدى للناس.
فالذين يكفرون بآيات اللّه التي أنزلها اللّه على رسله، وأودعها كتبه، لهم عذاب شديد، أعده اللّه لهم يوم القيامة، ولن يعصمهم من اللّه عاصم- ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} عزّ سلطانه، وقد اعتز هؤلاء السفهاء بسفههم، فتطاولوا على حماه، وكفروا بآياته، واستخفوا بها. {ذو انتقام} يأخذ بنقمته من استخف بعزته! وفى الآيتين الكريمتين مسائل، منها:
أولا: قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ} فيه إشارة إلى أن القرآن الكريم نزل منجما أي مفرقا، يدل على هذا شاهد التاريخ، كما يدل عليه هذا اللفظ {نزّل} الذي يفيد الحركة والتفرق، بخلاف أنزل الذي يدل على الثبوت والوحدة.
ثانيا: قوله تعالى: {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} لم تذكر الكتب التي بين يدى القرآن، وإن كان المراد بها التوراة والإنجيل، وذلك الإطلاق إنما ليشمل جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء جميعا. ما بقي منها وما لم يبق، وما ذكر وما لم يذكر، لأنها جميعها من مورد الحق، يصدّق بعضها بعضا.
وإذا نظرنا إلى الكتب المنزلة، حسب واقعها التاريخىّ نجد أن القرآن الكريم هو الذي بين يدى الكتب السماوية، وليست هي التي بين يديه، لأنه جاء إلى هذا الوجود تاليا لها، لا سابقا عليها.
ولكن الكتب السماوية ليست أحداثا حادثة، وإنما هي وقائع في علم اللّه، موجودة من الأزل، شأنها شأن جميع ما في علم اللّه، وظهورها وانكشافها لنا يجيء موقوتا بإرادة اللّه مقدورا بحكمته.. ففى سير الأحداث من سجل الغيب وظهورها على مسرح حياتنا، نجد أن الكتب السماوية جميعها تقدمت القرآن الكريم، واحدا واحدا، والسابق منها بين يدى اللاحق، وبهذا التقدير تقع جميعها بين يدى القرآن! وليس الأمر كذلك في حركة التاريخ، حيث تطوى الأحداث التي تجدّ، فكل حدث جديد في هذه الحركة يمشى على آثار الحدث الذي مضى، ويخلّفه وراءه.
وحركة الزمن ليست على تلك الصورة، إنها حركة واحدة، أشبه بحركة القطار.. والأحداث محمولة على جزئيات هذا الامتداد الزمنى، كما يحمل الأشخاص والأشياء في عربات القطار، والمتقدم منها يظل دائما متقدما بين يدى المتأخر!
وننظر إلى القرآن الكريم في هذا الوضع فنجده وقد أخذ مكانه من الكتب السماوية، كمصدر إشعاع لها، ومركز انطلاق لكلمات اللّه منها، يرسل كل حين شعاعات من نور اللّه، إلى عباد، اللّه على يد رسل اللّه، ويقدمها بين يديه، وكأنها تمهد له الطريق، وتهيئ له الأفق الذي يستقبله، حين يطلع على الناس بشعلته المقدسة، ويملأ الوجود بنوره القدسىّ.
وعلى ضوء هذا التصوّر يمكن أن نفهم قول اللّه تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [48: المائدة].
فهذه الهيمنة إنما تكون لقوة هي مصدر لتلك القوى النابعة منها، المستندة إليها، فيكون لها بهذا الوضع مكان الرقابة عليها، والضبط لخط سيرها.
ثالثا: ومن الهيمنة التي للقرآن على الكتب السماوية التي بين يديه أنه هو المصدّق لها، الشاهد الذي ترى في أضوائه وفى أحكامه، وأخباره وآدابه- آيات صدقها، وأنها من مورد هذا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ ليس بعد شهادة القرآن شهادة، ولا وراء الحق الذي يقوله حق، وإنه سيظل قائما هكذا إلى يوم القيامة، معجزة تنحدى الناس جميعا، أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [23: البقرة] ومن كان هذا شأنه، وذلك إعجازه فله أن يقول، وعلى الناس أن يسمعوا، وله أن يحكم، وعلى الناس أن ينزلوا على حكمه، طوعا أو كرها.
رابعا: قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ} بعد قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ}.
وذلك لاختلاف المقامين، فاللّه سبحانه هو الذي أنزل الفرقان، ونسبة هذا الخبر إلى اللّه سبحانه وتعالى هنا هي نسبة مجردة، لا يراد بها غير إثبات الحكم الذي تضمنه الخبر، وهو أنه تعالى هو الذي أنزل القرآن.. أما الخبر في قوله تعالى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ} فليس مرادا به مجرد النسبة إلى اللّه تعالى، بل وبيان الصورة التي نزل عليها الكتاب الكريم، وأنه نزل على النبي مفرقا ولم ينزل جملة واحدة.